الاثنين، نونبر 27، 2006

ما هو الأمن اللغوي ؟

Alain BENTOLILA
يبدو أن فرنسا وحلفائها منشغلين هذه الأيام برسم خطة للدفاع عن ما يسمى بالأمن اللغوي بالمغرب. فما هو اللاأمن اللغوي ؟ وماعلاقة الدارجة بذلك؟ هذه الأسئلة وغيرها يجيب عنها الأستاذ عبد القادر الفاسي الفهري مدير معهد الدراسات و الأبحاث للتعريب في مقال له بجريدة العلم المغربية بعنوان "العربية، الاستراتيجية والأمن" . إليكم ما جاء فيه :
صنفت السلطات الأمريكية مؤخرا اللغة العربية لغة استراتيجية في التعليم، ويتسارع عدد كبير من الأمريكيين إلى تعلم العربية باعتبارها مكونا لغويا وثقافيا عربوفونيا ناجعا في التكوين. وقد حسمت السلطات التربوية الفرنسية لصالح اختيار تبني تعليم عربي ازدواجي (يراعي الأبعاد الكتابية والشفهية للمتصل اللغوي العربي بين فصيحه وعاميه). وفي إسرائيل، تم ترسيم اللغة العربية إلى جانب العبرية، وتحمل اللوحات الإشهارية إعلانات بالعربية وبالعبرية.

وبموازاة مع هذا، وضد التيار، تتحرك أقلية من الجامعيين الفرنسيين، الحاملة لتصور اختزالي للغة العربية، بهدف فرض بديل لهجي "مغاربي" يبدو أن أوروبا تتفرد به! وهي بذلك تتبنى أطروحات متجاوزة من عهد ليوطي، حينت من أجل تلافي "اللاأمن اللغوي" بالمغرب (؟!)، المتولد عن "لأفكار الثابتة والمتخلفة"، وعن "لأصوليات والتعصبات" التي تحملها أدبيات العربية (كذا!). وهكذا يوظف الخلط و"الملغمة"، باسم الدفاع عن التواصل والحوار، والحق في "اللغة الأم" ووظائفها (المغلوطة) في التعليم، ومعالجة إشكال الازدواجية، والتعدد اللغوي، الخ. المنطق ضعيف، والتشخيص تبسيطي، والتحليل ساذج، وغير موضوعي، وغير مقارن، ومتسرع من أجل تطبيق وصفة بترية، على حساب اللغة العربية العصرية المعيرة، التي تكتسب في المدرسة.

فهذه الأخيرة توصف قدحيا بالعربية »الكلاسيكية«، تبتر بشفرة أوكام، لصالح عربية لهجية تثمن إلى حد العمى، دون استدلال علمي ولا احتساب موضوعي للنتائج الدرامية لهذا الاختيار المائع والسيء القصد. إنك لا تحتاج إلى أن تكون خبيرا لسانيا لتفكك هذا التفكير المخادع، والمتهور والبتري. إنه تفكير بعيد عما نعرفه عن واقع اتصال اللغات، في محيط التعدد اللسني واللغوي في مختلف البلدان، بعيد عن واقع تفاعل اللغات في النمو المعرفي، بعيد عن الواقع المقارن للحلول، أما عما نعرفه عن لغات المدرسة وعلائقها باللغات المتداولة خارجها، أو الروائز الموظفة لتشخيص ما يسميه هؤلاء الجامعيون »بالقطيعة« بين لغة المدرسة ولغة البيت، الخ. إن مراكمة المخادعة والزيف المركنتيلي لا يزعج زملاءنا المربين / اللغويين فيما يبدو!

إن الدارجة المغربية (الحاملة لعناصر ثقافية غنية ومتنوعة) تختص بتنوع كبير في نظام المفردات، وقواعد النحو والصرف والنطق والدلالة، الخ، بحسب المناطق، والبوادي أو الحواضر، والطبقات الاجتماعية، والمستويات الثقافية، الخ. حاول أن تسمي فاكهة، أو خضرة، أو حلوى، أو حدثا أو حالة، الخ. فستجد أن التسميات متنوعة جدا، سواء أكانت ذات أصول عربية، أو أمازيغية، أو أجنبية ممغربة (فرنسية أو إسبانية، الخ) أو متخطية لهذه المصادر كلها في نفس الوقت، بحسب الطبقات الاجتماعية، والأصول الإثنية، الخ. حاول أن تلصق أداة تعريف باسم، أو بناء مركب عددي، أو استعمال الحساب، أو إلصاق ضمير بحرف أو فعل أو اسم، أو رصد مواقع الأسوار أو الإشارة أو التعريف، الخ، في تركيب اسمي، أو معرفة كيف نستعمل اسم الفاعل أو اسم المفعول للدلالة على الزمن والجهة، الخ. قارن بين نص من »الملحون« أو زجل آخر أو نص شعبي، الخ.

سيتضح لك سريعا أن الدارجة المغربية تتسم بصعوبة أكبر في أنظمتها للتسمية، والتركيب والنطق ولبناء الدلالة، أكثر مما تتسم به العربية الفصيحة العصرية. وأحد المؤشرات على هذه الصعوبة أن الدراسات الوصفية المتوفرة لهذا النظام اللهجي (واللهجات العربية الأخرى كذلك) أقل تفصيلا ودقة وتطورا، مقارنة مع وصفيات اللغة العربية المعيرة (حتى لانقول إنها ضعيفة وغير ملائمة) لتتحول الدارجة إلى لغة للمدرسة، تحتاج الى جهود كبرى في التقعيد والتعيير، تؤدي الى تأخير المغرب عدة عقود. والأذكى من هذا أن ازدواجية جديدة ستحل أوتوماتيكيا بين اللغة المعيرة الجديدة واللهجات المتداولة الجديدة، مع مساوئ ضخمة القطيعة مع لغة العلوم والتراث الحي، ولغة ذات رمزية متميزة، ولغة ذات مؤشر تواصلي مرتفع، وذات قوة اقتصادية لايستهان بها، الخ. فحل شفرة أوكام في الازدواجية العربية المغريبة يبدو انتحاريا بالنسبة للغة الهوية في التعليم، مؤديا بالضرورة الى تخليها عن مكانتها لصالح اللغات الأجنبية.

لقد كانت الازدواجية اللغوية موضوع عدد من الدراسات السوسيولسانية التي لم تقرنها فيما نعلم »بالقطيعة« المزعومة، بل عدتها ظاهرة طبيعية، ناتجة عن وظائف مغايرة للغة المدرسة، التي تعتمد التجريد، والاستعمال »المهذب« السليم، واللغة خارج المدرسة ، التي لها أشكال تعبيرية ومضامينية أخرى. وقد شغل تدبير الفجوات المتولدة عن الازدواجية أو التعدد اللسني باستمرار (والازدواجية بين المكتوب والمنطوق) مجامع اللغة العربية، وكذلك اللسانيين المخططين أو المربين العرب. ورغم أن هذه المؤسسات دعت بإلحاح الى الحد من الفجوات بتعيير المفردات اللهجية (من بين أشياء أخرى)، فإنه لم يقم أي عمل لساني عميق، ولم ينفذ أي مخطط شمولي، نتيجة نقص في الخبرات في مجال اللسانيات المقارنة (من بين مجالات أخرى)، وغياب رؤية واضحة وانعدام الإدارة. ولعل ضمور الوسائل، و »مؤامرات« الإدارة، والسن المتقدم للمجمعيين ووضعهم الدائم ومحافظتهم، واستنساخ هذه المجامع للأكاديمية الفرنسية (التي نشأت ونمت في سياق تاريخي ولساني مغاير)، واستنزاف الجهود في تحديد اللغة السليمة، وتوحيد المصطلح، الخ، كلها عوامل جسدت عوائق في وجه أي تخطيط لساني تجديدي، بتصور ناجع وملائم للبلدان المعنية. ثم إن تيسير النحو لم يكتب له التوفيق، في غياب لسانيين مقارنين ومخططين جادين. ولاقت نفس المصير مشاريع تحديث المعاجم، و»المعجم التاريخي« الذي خطط له فيشر، ومات بموت مقترحه.

إن نقطة القوة بالنسبة للمغرب هو أنه يزخر بالأطر اللسانية والعلمية والتربوية التي بإمكانها أن تضع إصلاحا شاملا واندماجيا للغنى التنوعي وبدائل ألسن الهوية، بما فيها اللغة العربية الفصيحة، لغة المدرسة الموحّدة. وهذه الطاقات مهيأة ومنفتحة للإفادة من طاقات زملاء من بلدان أخرى في التصور والإنجاز. ولايصح أن تستنزف جهود هؤلاء الخبراء في التصدي لمشكل وضع اللغات الموجودة، أو أكثر من ذلك، في الدفاع عن الاختزالية الساذجة، التي تحمل أكثر من غيرها بذور اللاأمن والمغامرة. إن البرنامج يجب أن يركز على تحقيق الأدوات والمنتوجات التي تبرز بالواضح الرغبة في تجديد اللغة، والرفع من حيوتها، وتجديد مضامينها، وتيسير تعلمها بناء على اختيارات واضحة ومعللة، تعيد تهيئة مفرداتها، وقواعدها، وطرق تلقينها، الخ ولا يصح أن يكون نهجهم الاستنساخ. ولا يمكن أن تكلل جهودهم بالنجاح دون إرادة واضحة للدولة في أعلى مستوياتها، بأن تنهض بلغتها الرسمية، وألسن الهوية، وإقرارتوجهات واضحة في مجال اللغات الأجنبية.

إن مفهوم »اللغة الأم« في البلدان العربية لايدرك في انفصال عن المتصل اللغوي الازدواجي التعددي العربي (بين لغة فصيحة ولغات وسيطة ولغات عامية). ولا معنى لأن نَعُدُّ كل مكون في هذا المتصل لغة قائمة الذات، وأن نختلق »قطائع« زائفة مع أن الاتصال يتم بأحد هذه المكونات بحسب السياق. لنقارن ألمانية المدرسة بالألمانية المتداولة أو العامية، وعبرية المدرسة بالعبرية الشفهية، وإنجليزية المدرسة بالإنجليزيات الشعبية، الخ. إن اللغات المعبّرة نفسها لاتخلو من تنوع، كما هو معلوم. إن اللغة الفرنسية لاتقل تنوعا، سواء في داخل فرنسا أو خارجها. وما الحديث عن »القطيعة« بين المعير وغير المعير إلا خدعة.

وإن من الخداع أيضا أن نزعم أن الطفل الذي لايتعلم بلغته الأم معوّق ومحكوم عليه بالفشل في الدراسة. ولعل المثال المضاد الفاضح هو ما يجري مع عبرية إسرائيل. ففي هذا البابل اللغوي، الذي مصدره الهجرة الكثيفة، نجد لغات أم متعددة، منها العربية والروسية، واللغات الأوروبية، الخ، مع أن العبرية هي لغة المدرسة. ثم إن لغات الاستعمال اليومي هي العربية والروسية والإنجليزية (التي ليست رسمية، بل مشتركة) واليديش، إلى جانب العبرية. وكثير من الأمهات والآباء يتعلمون العبرية عبر أبنائهم (في المدرسة). ومثال آخر صارخ هو الألمانية، بفروقاتها اللهجية الدرامية بين ألمانيا العليا والسفلى. ومعلوم أن الاسبانيكوس في الولايات المتحدة قد اختاروا ديمقراطيا تعليم أبنائهم بالإنجليزية. وقريب هنا بالمغرب، هناك أطفال مغاربة يكونون في البعثات الأجنبية بلغة غير لغتهم، مع أنهم لايعانون من الأصولية المتعصبة أو الفشل الدراسي أكثر من أولئك الذين تكونوا في مدارس عمومية بلغتهم. وثقوا بأن لائحة الأمثلة طويلة.

إن النهج الاختزالي ينبع من رؤية غير واقعية وخاعة. صحيح أن المغرب يحتاج بإلحاح إلى الإصلاح. إصلاح كل مجال. يجب إصلاح البيداغوجية، من بين أشياء أخرى، وإصلاح اللغة العربية وتعليمها. وينبغي البحث عن الجودة في كل مستوى (المناهج، الدعائم الديداكتيكية، المدرّس، المدبّر، إلخ). إلا أن إصلاح شؤون العربية (كجزء من كل شامل) لايعني إطلاقا الاستئصال بشفرة أوكام.
معهد الدراسات و الأبحاث للتعريب

Quand l’insécurité linguistique obscurcit l’avenir du Maroc Alain BENTOLILA, L'economiste

ليست هناك تعليقات: