الأستاذ المصدق: أزمة لغة أم أزمة حكومات؟
كتب الأستاذ عبد اللطيف المصدق في مدونته كلمات عابرة موضوعا شيقا بخصوص صراع العربية مع الفرنسية والإنجليزية في الدول العربية تحت عنوان: "أزمة لغة عربية...أم أزمة حكومات وطنية..؟؟!" وإليكم ما جاء فيه:
أزمة اللغة العربية اليوم جزء من أزمة الحكومات العربية؛ في ضعفها وتخلفها وتشرذمها، وغياب وعيها بذاتها، واتساع الهوة بينها وبين شعوبها، وانشغالها الزائد بهاجس أمنها الذي كاد يغطي على مجمل سياستها المرتبطة في الغالب بدرء المخاطر عنها، وجلب المصالح لنفسها ولمحيطها ولأتباعها ولحلفائها في الداخل والخارج، ولإطالة أمدها في الحكم أكبر وقت ممكن رغم استبدادها وإخفاقاتها الكثيرة التي تضطرها دوما إلى تكميم الأفواه المعارضة المطالبة بضرورة الإصلاح الشامل، وشل الأيادي النقية التي تشير إلى مواطن الخلل والزلل، بدل الإذعان للحق والاعتراف بالتقصير أو الخطأ الذي كثيرا ما يترتب عن نتائجه في البلدان الديمقراطية التي تحترم إرادة شعوبها استقلال واعتذار المسؤول، وانسحابه من الحياة السياسية بأقل الخسائر الممكنة التي يمكن أن تتفاقم إذا ما أصر على البقاء في منصبه وعناده رغم اعتراض المعترضين، كما هو حال معظم حكامنا وساساتنا ومسؤولينا.
ولولا القدر وحتمية الموت لبقوا في مناصبهم أبد الدهر، مخلدين فيها دوما وأبدا، شاء من شاء وأبى من أبى..!!
في الماضي البعيد والقريب كان مجمل التاريخ العربي ملكا للحكومات العربية بامتياز،لا تحتل فيه الشعوب العربية إلا تلك الأدوار الصغيرة التي تشبه دور الممثلين الثانويين البسطاء(الكمبارص) في الأفلام السينمائية الكبيرة التي تتطلب حشودا ضخمة تملأ فضاء الشاشة، وتضفي على مواقف البطل هيبة وجلالا عند ظهوره أو عبوره، من خلال الهتاف والتصفيق والصراخ،أو التلويح الجماعي الكبشي أو الببغائي بالتحية من بعيد..
وكان ولاء المؤرخين والأدباء والشعراء العرب لحكامهم وأولياء نعمتهم كبيرا وكافيا ليجعل من كتاباتهم التاريخية وأعمالهم الأدبية مرهونة على الدوام بمناسبات الحكام البهية المشرقة على الدوام رغم كل هزائمهم وانتكاساتهم، وما سببوه من إحباطات كثيرة لشعوبهم..
ورغم ذلك الذوبان الكبير الذي أبداه كثير من المؤرخين والشعراء والأدباء والعلماء أمام حكامهم لدرجة انمحاء شخصيتهم تماما، وتحولهم إلى أشباح ودمى فاقدة لكل حس أو شعور، في كثير من الأحيان، فقد كان ملاذهم ومفزعهم الأخير إلى اللغة العربية، فيعملون على تنميقها وتجويدها وتجريب كل إمكانيات التفنن البلاغي والصناعي الممكنة والمتاحة من خلالها، كل بحسب اطلاعه وتحصيله واقتداره، وصولا بها إلى أقصى درجات النضج والكمال. وعندما طويت صفحة أولئك الحكام من الوجود بقيت كتاباتهم، بغض النظر عن نوعية مضامينها السلطوية، دالة على اقتدارهم اللغوي والتعبيري..
ورغم ما شاب كلام تلك الطبقة العالمة والمثقفة من تملق وتزلف ومبالغات ومزايدات كثيرا ما عملت على طمس حق وإعلاء باطل، و تهوين الظلم وتجميل الهزائم.. فلا أحد منا الآن يستطيع أن ينكر فضل أولئك الحكام الأسلاف، على الأقل في شحذ همم تلك الطبقة المحظوظة، وتفتيق قرائحها في مضمار اللغة العربية الذي لا تحده حدود.
غير أن مضمار اللغة العربية شاق وعسير، ويحتاج إلى ترويض كبير من جانب المتكلم والكاتب ليبدع، ومن جانب المستمع أو القارئ ليفهم وليستمتع.
لذلك كانت مهمة إعداد وتربية أولئك الحكام لأبنائهم ولأعوانهم المقربين تناط بكبار المثقفين والمتخصصين في مجال اللغة العربية نطقا وكتابة وتعبيرا، وفي مجال علومها المختلفة من شريعة وآداب وعلوم شتى اطلاعا وفهما وتدقيقا.
وكثيرا ما اقترنت أسماء بعض الحكام المشهورين بأسماء بعض شعرائهم وعلمائهم وفلاسفتهم على نحو ما هو معروف مثلا من ارتباط اسم هارون الرشيد بالأصمعي، والمهدي بالمفضل الضبي، وسيف الدولة بالمتنبي، وصلاح الدين الأيوبي بالقاضي الفاضل، والمنصور الموحدي بابن رشد قبل نكبته وهلم جرا، كما كانت معظم المؤلفات العربية المشهورة تمهر بأسماء الحكام أو أعوانهم المقربين.
وإذا أبدى أحد الحكام إعراضا عن التعلم والتأدب وإتقان اللغة العربية، أو لحنا أو ضعفا، أو ركونا بينا إلى الخمول والدعة كان ذلك سببا كافيا لإقصائه أو عزله من الحكم، كما هو حال الخلفاء الموحدين مثلا الذين ارتبطت دعوتهم المشهورة ارتباطا وثيقا بعقيدة التوحيد التي لا تخلو من بعض العمق والتعقيد، كما أوضحنا في بعض الإدراجات السابقة.
أما اليوم فقد أصبحت الفرنكفونية والأنجلوسكسونية علامة بارزة تطبع معظم سلوك حكامنا العرب شرقا وغربا؛ في حياتهم وعاداتهم، وفي لغتهم ولكنتهم، وفي طباعهم وأمزجتهم تجعل الألفة بينهم وبين نظرائهم الفرنسيين أو الإنجليز أو الأمريكيين متمكنة أكثر من أي وقت مضى.
أو لم يرضعوا في الغالب من أثداء استعمارية واحدة فتأصلت فيهم طباع متماثلة هي طباع التبعية الغريزية التي عمموها على شعوبهم أيضا من خلال برامجهم وسياستهم، وفرضوها على واقع الأمة العربية حتى ضعفت صلتنا بلغتنا الأم الأصلية، واختلطت طباعنا وأمزجتنا الحقيقية بكل بديل غريب وأجنبي دخيل..!!!.
وقد يكفي الواحد منا أن يتطلع إلى مشهد مراسيم الاستقبال والتوديع لحكامنا التي تغطي في الغالب على مشاريع وانتظارات شعوبهم الحقيقية في الإصلاح والبناء، وكلمات الترحيب المتبادلة بينهم وبين نظرائهم الغربيين التي قلما تحتاج إلى ترجمان من جانبنا، ولكنها تحتاج إلى ترجمة شفوية فورية من جانبهم أو نصية تطبع على الشريط المنزلق أسفل شاشات تلفزيوناتهم، إمعانا في ترسيخ التبعية للخارج وتوسيع هامش التباين والتباعد في الداخل بين واقع حكامنا وواقع شعوبهم.
وهاهم فرنكفونيو المغرب يقيمون على أرضهم الامتحان الوطني للإملاء الفرنسي، إسهاما منهم في الحفاظ على نقاء اللغة الفرنسية خارج حدودها، في صفوف أجيالنا الصاعدة، في الوقت الذي تقتل فيه اللغة العربية يوميا من خلال التساهل المفرط في نحوها وصرفها وتركيبها على ألسنة وزرائنا والقيمين على شؤون بلداننا، على مرأى ومسمع الجميع، وفي كل المشهد الثقافي العربي المهجن، ولا من يسأل ولا من يجيب...!!
عبد اللطيف المصدق: استاذ وباحث جامعي من مراكش
أزمة اللغة العربية اليوم جزء من أزمة الحكومات العربية؛ في ضعفها وتخلفها وتشرذمها، وغياب وعيها بذاتها، واتساع الهوة بينها وبين شعوبها، وانشغالها الزائد بهاجس أمنها الذي كاد يغطي على مجمل سياستها المرتبطة في الغالب بدرء المخاطر عنها، وجلب المصالح لنفسها ولمحيطها ولأتباعها ولحلفائها في الداخل والخارج، ولإطالة أمدها في الحكم أكبر وقت ممكن رغم استبدادها وإخفاقاتها الكثيرة التي تضطرها دوما إلى تكميم الأفواه المعارضة المطالبة بضرورة الإصلاح الشامل، وشل الأيادي النقية التي تشير إلى مواطن الخلل والزلل، بدل الإذعان للحق والاعتراف بالتقصير أو الخطأ الذي كثيرا ما يترتب عن نتائجه في البلدان الديمقراطية التي تحترم إرادة شعوبها استقلال واعتذار المسؤول، وانسحابه من الحياة السياسية بأقل الخسائر الممكنة التي يمكن أن تتفاقم إذا ما أصر على البقاء في منصبه وعناده رغم اعتراض المعترضين، كما هو حال معظم حكامنا وساساتنا ومسؤولينا.
ولولا القدر وحتمية الموت لبقوا في مناصبهم أبد الدهر، مخلدين فيها دوما وأبدا، شاء من شاء وأبى من أبى..!!
في الماضي البعيد والقريب كان مجمل التاريخ العربي ملكا للحكومات العربية بامتياز،لا تحتل فيه الشعوب العربية إلا تلك الأدوار الصغيرة التي تشبه دور الممثلين الثانويين البسطاء(الكمبارص) في الأفلام السينمائية الكبيرة التي تتطلب حشودا ضخمة تملأ فضاء الشاشة، وتضفي على مواقف البطل هيبة وجلالا عند ظهوره أو عبوره، من خلال الهتاف والتصفيق والصراخ،أو التلويح الجماعي الكبشي أو الببغائي بالتحية من بعيد..
وكان ولاء المؤرخين والأدباء والشعراء العرب لحكامهم وأولياء نعمتهم كبيرا وكافيا ليجعل من كتاباتهم التاريخية وأعمالهم الأدبية مرهونة على الدوام بمناسبات الحكام البهية المشرقة على الدوام رغم كل هزائمهم وانتكاساتهم، وما سببوه من إحباطات كثيرة لشعوبهم..
ورغم ذلك الذوبان الكبير الذي أبداه كثير من المؤرخين والشعراء والأدباء والعلماء أمام حكامهم لدرجة انمحاء شخصيتهم تماما، وتحولهم إلى أشباح ودمى فاقدة لكل حس أو شعور، في كثير من الأحيان، فقد كان ملاذهم ومفزعهم الأخير إلى اللغة العربية، فيعملون على تنميقها وتجويدها وتجريب كل إمكانيات التفنن البلاغي والصناعي الممكنة والمتاحة من خلالها، كل بحسب اطلاعه وتحصيله واقتداره، وصولا بها إلى أقصى درجات النضج والكمال. وعندما طويت صفحة أولئك الحكام من الوجود بقيت كتاباتهم، بغض النظر عن نوعية مضامينها السلطوية، دالة على اقتدارهم اللغوي والتعبيري..
ورغم ما شاب كلام تلك الطبقة العالمة والمثقفة من تملق وتزلف ومبالغات ومزايدات كثيرا ما عملت على طمس حق وإعلاء باطل، و تهوين الظلم وتجميل الهزائم.. فلا أحد منا الآن يستطيع أن ينكر فضل أولئك الحكام الأسلاف، على الأقل في شحذ همم تلك الطبقة المحظوظة، وتفتيق قرائحها في مضمار اللغة العربية الذي لا تحده حدود.
غير أن مضمار اللغة العربية شاق وعسير، ويحتاج إلى ترويض كبير من جانب المتكلم والكاتب ليبدع، ومن جانب المستمع أو القارئ ليفهم وليستمتع.
لذلك كانت مهمة إعداد وتربية أولئك الحكام لأبنائهم ولأعوانهم المقربين تناط بكبار المثقفين والمتخصصين في مجال اللغة العربية نطقا وكتابة وتعبيرا، وفي مجال علومها المختلفة من شريعة وآداب وعلوم شتى اطلاعا وفهما وتدقيقا.
وكثيرا ما اقترنت أسماء بعض الحكام المشهورين بأسماء بعض شعرائهم وعلمائهم وفلاسفتهم على نحو ما هو معروف مثلا من ارتباط اسم هارون الرشيد بالأصمعي، والمهدي بالمفضل الضبي، وسيف الدولة بالمتنبي، وصلاح الدين الأيوبي بالقاضي الفاضل، والمنصور الموحدي بابن رشد قبل نكبته وهلم جرا، كما كانت معظم المؤلفات العربية المشهورة تمهر بأسماء الحكام أو أعوانهم المقربين.
وإذا أبدى أحد الحكام إعراضا عن التعلم والتأدب وإتقان اللغة العربية، أو لحنا أو ضعفا، أو ركونا بينا إلى الخمول والدعة كان ذلك سببا كافيا لإقصائه أو عزله من الحكم، كما هو حال الخلفاء الموحدين مثلا الذين ارتبطت دعوتهم المشهورة ارتباطا وثيقا بعقيدة التوحيد التي لا تخلو من بعض العمق والتعقيد، كما أوضحنا في بعض الإدراجات السابقة.
أما اليوم فقد أصبحت الفرنكفونية والأنجلوسكسونية علامة بارزة تطبع معظم سلوك حكامنا العرب شرقا وغربا؛ في حياتهم وعاداتهم، وفي لغتهم ولكنتهم، وفي طباعهم وأمزجتهم تجعل الألفة بينهم وبين نظرائهم الفرنسيين أو الإنجليز أو الأمريكيين متمكنة أكثر من أي وقت مضى.
أو لم يرضعوا في الغالب من أثداء استعمارية واحدة فتأصلت فيهم طباع متماثلة هي طباع التبعية الغريزية التي عمموها على شعوبهم أيضا من خلال برامجهم وسياستهم، وفرضوها على واقع الأمة العربية حتى ضعفت صلتنا بلغتنا الأم الأصلية، واختلطت طباعنا وأمزجتنا الحقيقية بكل بديل غريب وأجنبي دخيل..!!!.
وقد يكفي الواحد منا أن يتطلع إلى مشهد مراسيم الاستقبال والتوديع لحكامنا التي تغطي في الغالب على مشاريع وانتظارات شعوبهم الحقيقية في الإصلاح والبناء، وكلمات الترحيب المتبادلة بينهم وبين نظرائهم الغربيين التي قلما تحتاج إلى ترجمان من جانبنا، ولكنها تحتاج إلى ترجمة شفوية فورية من جانبهم أو نصية تطبع على الشريط المنزلق أسفل شاشات تلفزيوناتهم، إمعانا في ترسيخ التبعية للخارج وتوسيع هامش التباين والتباعد في الداخل بين واقع حكامنا وواقع شعوبهم.
وهاهم فرنكفونيو المغرب يقيمون على أرضهم الامتحان الوطني للإملاء الفرنسي، إسهاما منهم في الحفاظ على نقاء اللغة الفرنسية خارج حدودها، في صفوف أجيالنا الصاعدة، في الوقت الذي تقتل فيه اللغة العربية يوميا من خلال التساهل المفرط في نحوها وصرفها وتركيبها على ألسنة وزرائنا والقيمين على شؤون بلداننا، على مرأى ومسمع الجميع، وفي كل المشهد الثقافي العربي المهجن، ولا من يسأل ولا من يجيب...!!
عبد اللطيف المصدق: استاذ وباحث جامعي من مراكش
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق